مقالات

محمد أبو المجد يكتب: أحمد عرابي.. ظلموه حيا وميتا

الاستماع للخبر

الزعيم أحمد عرابي، رحمه الله، تعرض للظلم البالغ في حياته، ونال ما لم يكن يستحقه، فبدلا من التقدير والاحترام والعرفان بالجميل، واجه مواقف في منتهى السوء من الإهانة والإساءة والانتقادات غير المبررة، أساء الكثيرون للرجل العملاق، دون حق؛ لدرجة أنه، بعد عودته من المنفى، لم يكن يتمكن من أداء الصلوات في المسجد، لأن الناس كانوا يتعرضون له بالإساءة والبذاءات.

هذا البطل الذي وقف بكل قوة، ضد ظلم النظام السائد وقتها، وطالب بالعدالة للشعب والجيش.. وبالطبع كان الحديث بهذه الصورة ضد ما اعتاده المصريون من تقديس الحاكم، والتعامل معه على أنه ظل الإله على الأرض. آمن عرابي بإمكانيات المصريين، وعلم الفلاحين فنون العسكرية.. وصنع جيشًا كاد ينتصر على الإنجليز، أقوى دولة على وجه الأرض آنذاك، لولا الخيانة.

كان بإمكان عرابي أن يتمادى في عداوة الخديو والإنجليز، إلا أن محاميه “البريطاني”، الذي تطوع للدفاع عنه، إعجابًا بشخصيته، وصلابته، أقنعه بضرورة الاعتراف بتهمة العصيان، وشق عصا الطاعة على الخديو توفيق، لإنقاذ زملائه من قادة الثورة العظام من حبل المشنقة، مقابل تخفيف الحكم من الإعدام إلى النفي.. فلم يجد أمامه بدًا من القبول بالصفقة الظالمة.

كان الخديو في بداية المعركة منحازًا إلى جانب عرابي والوطنيين، بعد انتهاء أزمة المواجهة، وتدخل محمود سامي البارودي، ومحبي عرابي من كبار المسئولين لإنهاء الخلاف، سيما في وجود خطر الاحتلال، وهجوم القوات البريطانية على البلاد.. لدرجة أن توفيق كان يقضي الساعات الطوال في الحصون يشد أزر الجنود، ويدعوهم إلى الصمود.. قلة من يعرفون هذه المعلومات.. لقد قال لعرابي: “اعتبرني جنديًا من جنودك إلى أن يزول الخطر عن البلاد”.

ولنقرأ فقرة من كتاب عبدالرحمن الرافعي عن أحمد عرابي:
“واشتدت هذه المقاصد ظهورا من بعد عودة الخديو من مصيفه بالإسكندرية إلى العاصمة.. لم يكد الخديو يصل إلى العاصمة حتى أخذ ينفذ خطته وقوامها تفريق وحدات الجيش، ونقل الفرق الموالية للحزب العسكري من العاصمة لكى يستبدل بها فرقا أخرى موالية للخديو؛ فلما علم قادة الجيش بهذا للأمر اضطربوا له وأوجسوا شرا من عواقبه، وذهبت بهم الظنون والوساوس كل مذهب. وخشوا أن يكون غرض الحكومة الانتقام منهم والتنكيل بهم، وسرت بينهم شائعة أن في نية الحكومة إغراقهم في كوبرى “كفر اللهاث” حالة سفرهم بالقطار إلى الإسكندرية، وعادت إلى أذهانهم حادثة إغراق الأمير أحمد باشا رفعت ابن إبراهيم باشا في كفر الريادي في عهد سعيد باشا”..

أي أن إرهاصات الخيانة بدت واضحة للعيان.. وكان طبيعيًا أن ينهزم الجيش.

بعد “كَسْرة عرابي”، تنكر الخديو لمواقفه السابقة، وباع عرابي ورفاقه بأبخس الأثمان.. وعقد اتفاقات شيطانية مع المحتل الغاصب.. وسعى قادة الرأي، والأدباء والخطباء، والمفكرون، وطلاب السلطة وقتها، كما هي الحال في كل زمان ومكان، إلى تشويه صورة الزعيم العظيم.

من يرد أن يعرف حقيقة عرابي، فلينظر إلى مشهد وداع الشعب له بعد صدور قرار المحكمة بالنفي.. كان مشهدًا تشيب له الرءوس.. كم من عيون زرفت.. وكم من خدود لطمت، وكم من جيوب شقت.. كان يومًا كئيبًا وحزينًا على مصر كلها.. قرأت أن إحدى الأميرات، وهي بالمناسبة حفيدة الخديو إسماعيل، عرضت على عرابي الزواج، على أن تسافر معه للمنفى، لكن الرجل الزاهد رفض.. وأقنعها بالعودة، فعاقبتها أم توفيق بحبسها في حجرتها بقصر عابدين.

كانت النساء تجري خلف الموكب عبر المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية، حيث سيستقل السفينة إلى “سيلان” منفاه، وتلقي بالحلي والذهب عليه، والرجال بالأموال.

كان الرجل شديد القوة والتماسك؛ مما أثار إعجاب ودهشة المراسلين الأجانب الذين استمروا في الدفاع عنه إلى أن أجبروا حكومة بريطانيا على الإفراج عنه، وإعادته إلى مصر.

وقتها ارتعب الحكام من فكرة عودة الشعب للالتفاف حول زعيمه وتهديد العرش، فلجأوا إلى الشعراء والأدباء والمفكرين، والمنبطحين على سلالم القصور، رغبة ورهبة، فصوروا عرابي على أنه عاص لمشيئة الخديو، ومتطاول على السلطان، وأنه السبب المباشر لقدوم الإنجليز واحتلالهم البلاد.

هذا ما حدا بأحمد شوقي، المعتز بأنه “وُلِدَ ببابِ إسماعيل” ليُدَبَّج قصيدةً في هجاء الزعيم.. وسار على نهجه الكثيرون، حتى نجحوا في مهمتهم القذرة.. وصدَّقهم الناسُ، إلا من رحم ربِّي، وهم قلة.

الدول تفخر بزعمائها، وتقيم لهم التماثيل، حتى إن لم يقدموا معشار ما قدم أمثال عرابي، لكننا نبرع في ترديد الإساءات كالببغاوات.. رحم الله أحمد عرابي، وغفر للأقزام.

فيتو – 17 أكتوبر 2017